كشفت صفقات حزب الله مع تنظيم داعش وجبهة فتح الشام (النصرة سابقًا)، عن تزايد الاتجاهات البراجماتية في ممارسات حزب الله بعد سنوات مشاركته في الحرب الأهلية السورية؛ إذ حصد حزب الله عدة مكاسب من مشاركته في الصراع الممتد الدائر بسوريا، ليس أقلها منظومات التسلح غير التقليدية التي تُضاهي ما تمتلكه الجيوش النظامية، والخبرات القتالية والميدانية، بالإضافة إلى قيام الحزب بأدوار عابرة للحدود من خلال التفاوض وعقد صفقات مع قوى إقليمية ودولية، وهو ما سينعكس على توجهات الحزب في الداخل اللبناني ومنطقة الشرق الأوسط.
صفقات الحزب:
تصاعد اتجاه حزب الله إلى عقد صفقات مع تنظيمات إرهابية وميليشيات مُسلحة مع تزايد انخراطه في الحرب السورية، حيث توصل الحزب، في أغسطس 2017، إلى الاتفاق مع فصائل تابعة لداعش يقضي بالسماح لحوالي 300 من عناصر التنظيم وأسرهم بالانسحاب من الحدود اللبنانية - السورية إلى مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور الشرقي بموافقة نظام الأسد.
وفي المقابل، يقوم تنظيم داعش بإطلاق سراح أحد أسرى الحزب، وإعادة رفات عدد من مقاتليه وعناصر من الحرس الثوري الإيراني قتلوا على جبهات القتال ضد التنظيم في البادية السورية والقلمون ودير الزور، والكشف عن مصير ثمانية جنود لبنانيين كان التنظيم قد أسرهم عام 2014 في عرسال.
وأثارت الصفقة احتجاجات إقليمية ودولية واسعة النطاق، خاصة بعد قيام الحزب ونظام الأسد في سوريا بالإشراف على نقل عناصر التنظيم وأسرهم بواسطة حافلات وسيارات إسعاف بمرافقة قوات سورية وعناصر تابعة لحزب الله.
وفي مطلع أغسطس 2017، تفاوض حزب الله على صفقة مشابهة مع جبهة فتح الشام (النصرة)، تقضي بانسحاب الآلاف من عناصرها من الحدود اللبنانية – السورية، خاصة منطقة جرود عرسال الحدودية، في مقابل الإفراج عن عددٍ من عناصر الحزب، ووقف إطلاق النار، وهو ما يمكن اعتباره تأسيسًا لمرحلة جديدة في دور الحزب في الحرب السورية تقوم على تسكين بعض الجبهات مع التنظيمات الإرهابية، والقيام بأدوار التفاوض بالإنابة عن نظام الأسد وإيران في المنطقة الحدودية مع لبنان.
صعود البراجماتية:
على الرغم من التناقضات الأيديولوجية بين حزب الله والتنظيمات الإرهابية؛ إلا أنهما يتشابهان في الرؤية الثنائية للعالم، إذ لا يعترف السيد "حسن نصر الله" إلا بوجود مشروعين متصارعين: مشروعه، والمشروع المناوئ له، فيما تُقسِّم عقيدة تنظيم داعش العالم إلى مجتمعين: المجتمع الذي يحكمه، والمجتمع "الجاهلي" الذي يشمل كافة مخالفي التنظيم.
وعلى عكس المتوقع من أن التشابه في الرؤية المتشددة والإقصائية التي تأسس عليها مشروعاهما السياسي سيمنعهما من عقد الصفقات مع الغير أو قبول التفاوض مع الآخر؛ فإن حزب الله وداعش تمكنا من التوصل للصفقة سالفة الذكر، مما يعكس تراجع الاعتبارات الأيديولوجية الحاكمة لتحركاتهما، والتركيز على المكاسب البراجماتية التي يُمكن تحقيقها من المرونة في التعامل مع الخصوم الميدانيين.
وفي المقابل، تمسك الجيش اللبناني بأهدافه منذ اليوم الأول في عملية "فجر الجرود"، ولم يقدم أية تنازلات في سعيه لإنهاء تواجد مقاتلي داعش داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما يؤكد مدى الاختلاف بين أولويات الجيوش النظامية والميليشيات المُسلحة.
وكانت أولوية حزب الله تتركز على تطهير المناطق السورية المتاخمة للحدود اللبنانية من مقاتلي داعش، وتسكين جبهة قتالية لصالح نظام الأسد للتركيز على الجبهات الأخرى، وكان الحزب بمثابة وسيط بين داعش من جانب ونظام الأسد وإيران من جانب آخر.
أما مقاتلو داعش فكانت لديهم رغبة في الإفلات من حصار الجيش اللبناني، والانتقال من منطقة الحدود اللبنانية - السورية إلى منطقة أخرى أكثر أمنًا داخل سوريا بأقل الخسائر الممكنة، مما جعل صفقة حزب الله مثالية بالنسبة لعناصر التنظيم، وينطبق الأمر ذاته على حزب الله، وهو ما يعكس تطابق المصالح بين التنظيم وداعش.
حسابات معقدة:
على الرغم من تأكيد التقييمات الأولية أن صفقة حزب الله مع داعش حققت أهداف كل الأطراف، فقد كانت الصفقة أكثر ملاءمةً لحسابات الحزب والتنظيم مقارنةً بالجيش اللبناني، إذ كان الجيش اللبناني طرفًا في المواجهة وليس طرفًا في الصفقة، وكان قادرًا على تحقيق أهدافه دون وساطة؛ حيث تمكَّن الجيش من فرض حصار على مناطق تمركز داعش مما تسبب في انهيارات أصابت صفوف التنظيم في الأيام الأولى من العملية العسكرية للجيش اللبناني، وانسحبت عناصره باتجاه الأراضي السورية، بالإضافة إلى سيطرة الجيش على مناطق دفن العسكريين اللبنانيين المختطفين من قبل داعش ضمن الأراضي التي استردها الجيش اللبناني، حيث إن عملية تمشيط بسيطة كانت كفيلة بالعثور عليهم.
ويعني ذلك أن الصفقة كانت بمثابة إنقاذ لعناصر داعش من هزيمة محققة، خاصة وأنها تمت بعد أيام معدودة من بدء العمليات العسكرية للجيش اللبناني، ولم ينتظر حزب الله استكمال تحقيق الجيش للانتصار الميداني.
وتركزت حسابات حزب الله على عدم ترك المجال للدولة اللبنانية بتحقيق أي إنجازٍ عسكري من دون إقحام نفسه في صناعة هذا الإنجاز، وثانيًا استغلال المواجهات العسكرية مع داعش كغطاء لتمرير عملية المبادلة مع داعش، والتذرع بقيام الحزب بالمساهمة في حل قضية وطنية لإخفاء الدوافع السورية والإيرانية لعقد الصفقات مع التنظيمات الإرهابية.
دلالات الصفقات:
كشفت صفقات حزب الله مع تنظيم داعش وجبهة فتح الشام (النصرة) عن عدة دلالات يتمثل أهمها فيما يلي:
1- أولوية الحدود اللبنانية: أكدت الصفقة إدراك إيران لأهمية السيطرة الكاملة على الحدود اللبنانية – السورية، وتطهيرها من كافة التنظيمات الإرهابية، مقارنة بالحدود العراقية - السورية، حيث تسعى إيران لتأمين الممر البري الواصل من إيران إلى لبنان والذي أطلقت عليه صحيفة "الأخبار" اللبنانية المقربة من حزب الله "طريق التحرير"، وأثار ذلك احتجاجات بعض حلفاء إيران في العراق بسبب تحملهم تكلفة صفقات إيران مع داعش التي تتم عبر وساطة حزب الله.
2- صدارة الحسابات البراجماتية: تتمثل ثاني دلالات الصفقة في تقدم الحسابات البراجماتية على التصلب العقائدي لدى حزب الله، ويمكن الاستدلال على ذلك بالتناقضات في تصريحات قيادات الحزب، وازدواجية الخطاب لدى "السيد حسن نصرالله" الذي أكد معارضته في عام 2016 لفتح ممرات آمنة لخروج مقاتلي داعش في العراق، بينما قام بتبرير تأمينه الخروج الآمن لعناصر التنظيم من القلمون الشرقي في عام 2017. ويرجع ذلك إلى سعي الحزب لعقد صفقات مُستقبلية مع داعش، وبناء علاقات تقوم على تبادل المكاسب والمصالح المشتركة.
3- التنافس مع الدولة اللبنانية: يسعى حزب الله لمنافسة المؤسسات العسكرية والأمنية بالدولة اللبنانية، وعدم التسليم بأن الجيش اللبناني أصبح وحده قادرًا على حماية اللبنانيين وقائيًّا ودفاعيًّا، وهو ما تجلى في استعراض الحزب قدرته على اتخاذ قرارات منفردة دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة اللبنانية، وفرض الأمر الواقع عليها. ويعكس ذلك مخاوف الحزب من تصاعد القدرات العسكرية للجيش اللبناني، واحتمالات تجدد الجدل حول تسليم سلاح الحزب ودمج قواته بالجيش اللبناني، وإنهاء مشاركته في الحرب السورية.
ضغوط متصاعدة:
أثارت صفقات حزب الله مع التنظيمات الإرهابية تداعيات داخلية وإقليمية متعددة. فعلى صعيد الداخل اللبناني، أججت الصفقة التراشق السياسي بين المؤيدين والمعارضين لسلاح الحزب، وتصاعدت المطالب بإنهاء الازدواجية العسكرية في لبنان، وسيطرة الجيش اللبناني بصورة تامة على الشئون الدفاعية، بحيث يحتكر منفردًا حق امتلاك السلاح في لبنان. وفي المقابل، لم تؤثر الصفقة على المعادلة التي أرست تأليف الحكومة اللبنانية الحالية.
وعلى الصعيد الأمني، سيتزايد تركيز القوى اللبنانية على اتجاهات الحزب لاتخاذ قرارات منفردة لتحقيق مصالح أطراف خارجية، وخاصة نظام الأسد وإيران، وسيؤدي ذلك إلى تصاعد الاتجاهات المضادة للدفاع عن الاعتبارات والمصالح الداخلية اللبنانية في مواجهة "انفراد حزب الله".
وعلى المستوى الإقليمي، تصاعدت تحذيرات إسرائيل من توسع دور حزب الله في سوريا، باعتباره مؤشرًا على تعاظم النفوذ الإيراني، والتمهيد لتواجد طويل الأمد لإيران في سوريا من خلال وكلائها الإقليميين، ويرجح أن تتزايد الغارات الإسرائيلية على المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، خصوصًا إذا قرر حزب الله الحصول على سلاح كاسر للتوازن مع العدو الإسرائيلي.
ولا ينفصل ذلك عن تنظيم إسرائيل مناورات عسكرية في سبتمبر 2017 هي الأضخم منذ سنوات بمشاركة عشرات الآلاف من قوات الجيش وجنود الاحتياط من القوات البرية والجوية والبحرية، تمت خلالها محاكاة عمليات إجلاء المدن، وصد عمليات التسلل عند الحدود من قبل حزب الله اللبناني.
ختامًا، يُتوقع أن يواصل حزب الله عقد الصفقات مع الميليشيات المُسلحة والتنظيمات الإرهابية في سوريا في إطار تنفيذه الأجندة الإيرانية في المناطق التي يسيطر عليها، وسعيه للحفاظ على المصالح الإيرانية على الحدود السورية - اللبنانية، بالإضافة إلى اتجاه الحزب لاستعراض قدراته التفاوضية، وعقده صفقات واتفاقات منفردة، في إطار التنافس مع مؤسسات الدولة اللبنانية.